سورة فاطر - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


قال مطرف بن عبد الله بن الشخير هذه آية القراء وهذا على أن {يتلون} يمعنى يقرؤون وإن جعلناها بمعنى يتبعون صح معنى الآية، وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية، و{كتاب الله} هو القرآن، وإقامة الصلاة إقامتها بجميع شروطها، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البر، فالسر من ذلك هو التطوع والعلانية هو المفروض، و{يرجون} جملة في موضع خبر {إن}، و{تبور} معناه تكسد ويتعذر ربحها، ويقال تعوذوا بالله من بوار الأيم، واللام في قوله {ليوفيهم} متعلقة بفعل مضمر يقتضيه لفظ الآية تقديره وعدهم بأن لا تبور، أو فعلوا ذلك كله، أو أطاعوه ونحو هذا من التقديرات، وقوله {ويزيدهم من فضله} قالت فرقة: هو تضعيف الحسنات من العشر إلى السبعمائة، وتوفية الأجور على هذا هي المجازاة مقابلة، وقالت فرقة: إن التضعيف داخل في توفيه الأجور، وأما الزيادة من فضله إما النظر إلى وجهه تعالى، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم، كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] و{غفور} معناه متجاوز عن الذنوب ساتر لها، و{شكور} معناه مجاز عن اليسير من الطاعات مقرب لعبده، ثم ثبت تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {والذي أوحينا إليك من الكتاب} الآية، و{مصدقاً} حال مؤكدة، والذي بين يدي القرآن هو التوراة والإنجيل، وقوله تعالى: {إن الله بعباده لخبير بصير}، وعيد.


{أورثنا} معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرق، والميراث حقيقة أو مجازاً إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر، و{الكتاب} هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن وهو قد تضمن لمعاني الكتب المنزلة، قبله، فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها، و{الذين اصطفينا} يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وغيره، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأول لم يورثوه، و{اصطفينا} معناه اخترنا وفضلنا، والعباد عام في جميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، واختلف الناس في عود الضمير من قوله {فمنهم} فقال ابن عباس وابن مسعود ما مقتضاه إن الضمير عائد على {الذين} والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فـ الظالم لنفسه العاصي المسرف، والمقتصد متقي الكبائر والجمهور من الأمة، والسابق المتقي على الإطلاق، وقالت هذه الفرقة والأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري، والضمير في {يدخلونها} عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة: دخلوا الجنة كلهم، وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم، وفي رواية تحاكت مناكبهم، وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت مذ ستين سنة فكلهم ناج، وقال عبد الله بن مسعود: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله عز وجل: أدخلوهم في سعة رحمتي، وقالت عائشة في كتاب الثعلبي: السابق من أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم بعدها، والظالم نحن، وقال الحسن: السابق من رجحت حسناته، والمقتصد من استوت سيئاته والظالم من خفت موازينه، وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل، وقال ذو النون المصري، الظالم الذاكر لله بلسانه فقط والمقتصد الذاكر بقلبه والسابق الذي لا ينساه، وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال، وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: «كلهم في الجنة»، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة».
قال القاضي أبو محمد: أراد صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء رؤوس السابقين، وقال عثمان بن عفان: سابقنا أهل جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جماعة ولا جمعة، وقال عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه أن الضمير في {منهم} عائد على العباد والظالم لنفسه الكافر والمنافق والمقتصد المؤمن العاصي والسابق التقي على الإطلاق، وقالوا وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة {وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} [الواقعة: 12] والضمير في قوله {يدخلونها} على هذا القول خاص على الفريقين المقتصد والسابق الفرقة الظالمة في النار قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول، وروي هذا القول عن ابن عباس، وقال بعض العلماء قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله والمقتصد هو المعتدل في أموره لا يسرف في جهة من الجهات بل يلزم الوسط، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الأمور أوساطها»، وقالت فرقة لا معنى لقولها إن قوله تعالى: {الذين اصطفيناهم} الأنبياء والظالم منهم لنفسه من وقع في صغيرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود من غير ما وجه، وقرأ جمهور الناس {سابق بالخيرات}، وقرأ أبو عمرو الجوني {سباق بالخيرات}، و{بإذن الله} معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده، وقوله تعالى: {ذلك هو الفضل الكبير} إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة، وقال الطبري: السبق بالخيرات هو {الفضل الكبير}، قال في كتاب الثعلبي جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث، والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان، وقرأ جمهور الناس {جناتُ} بالرفع على البدل من {الفضل} وقرأ الجحدري {جناتِ} بالنصب بفعل مضمر يفسره {يدخلونها} وقرأ زر بن حبيش {جنة عدن} على الإفراد، وقرأ أبو عمرو وحده {يُدخَلونها} بضم الياء وفتح الخاء، ورويت عن ابن كثير، وقرأ الباقون {يَدخُلونها} بفتح الياء وضم الخاء، و{أساور} جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويقال سُوار بضم السين، وفي حرف أبي أساوير، وهو جمع أسوار وقد يقال ذلك في الحلي، ومشهور أسوار أنه الجيد الرمي من جند الفرس، ويحلون معناه رجلاً ونساء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع {ولؤلؤاً} بالنصب عطفاً على {أساور}، وكان عاصم في رواية أبي بكر يقرأ و{لوْلؤاً} بسكون الواو الأولى دون همز، وبهمز الثانية، وروي عنه ضد هذا همز الأولى، ولا يهمز الثانية، وقرأ الباقون {لؤلؤٍ} بالهمز وبالخفض عطفاً على {أساور}، و{الحزن} في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان، وخصص المفسرون في هذا الموضع فقال أبو الدرداء: حزن أهوال القيامة وما يصيب هناك من ظلم نفسه من الغم والحزن، وقال ابن عباس: حزن جهنم، وقال عطية: حزن الموت، وقال شهر: حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه، وقال قتادة: حزن الدنيا في الخوف أن تتقبل أعمالهم، وقيل غير هذا مما هو جزء من الحزن. قال القاضي أبو محمد: ولا معنى لتخصيص شيء من هذه الأحزان، لأن الحزن أجمع قد ذهب عنهم، وقولهم {لغفور شكور} وصفوه تعالى بأنه يغفر الذنوب ويجازي على القليل من الأعمال الصالحة بالكثير من الثواب، وهذا هو شكره لا رب سواه.


{المقامة} الإقامة، وهو من أقام، والمَقامة بفتح الميم القيام وهو من قام، و{دار المقامة} الجنة، والنصب تعب البدن، واللغوب تعب النفس اللازم عن تعب البدن، وقال قتادة اللغوب الوجع، وقرأ الجمهور لُغوب بضم اللام، وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي لَغوب بفتح اللام أي شيء يعيينا، ويحتمل أن يكون مصدراً كالولوع والوضوء، ثم أخبر عن حال {الذين كفروا} معادلاً بذلك الإخبار قبل عن الذين اصطفى، وهذا يؤيد تأويل من قبل إن الأصناف الثلاثة هي كلها في الجنة لأن ذكر الكافرين إنما جاء ها هنا، وقوله {لا يقضى} معناه لا يجهز لأنهم لو ماتوا لبطلت حواسهم فاستراحوا، وقرأ الحسن البصري والثقفي {فيموتون} ووجهها العطف على {يقضى} وهي قراءة ضعيفة، وقوله {لا يخفف عنهم من عذابها} لا يعارضه قوله {كلما خبت زدناهم سعيراً} [الإسراء: 97] لأن المعنى لا يخفف عنهم نوع عذابهم والنوع في نفسه يدخله أن يخبو أو يسعر ونحو ذلك، وقرأ جمهور القراء، {نجزي} بنصب {كلَّ} وبالنون في {نجزي}، وقرأ أبو عمرو ونافع {يُجزى} بضم الياء على بناء الفعل للمفعول {كلُّ كفور} برفع {كلُّ}، و{يصطرخون} يفتعلون من الصراخ أصله يصترخون فأبدلت التاء طاء لقرب مخرج الطاء من الصاد، وفي الكلام محذوف تقديره يقولون {ربنا} وطلبوا الرجوع إلى الدنيا في مقالتهم هذه فالتقدير فيقال لهم {أو لم نعمركم} على جهة التوقيف والتوبيخ، و{ما} في قوله {ما يتذكر} ظرفية، واختلف الناس في المدة التي هي حد للتذكير، فقال الحسن بن أبي الحسن: البلوغ، يريد أنه أول حال التذكير، وقال قتادة: ثمان عشرة سنة، وقالت فرقة: عشرون سنة، وحكى الزجاج: سبع عشرة سنة، وقال ابن عباس: أربعون سنة، وهذا قول حسن، ورويت فيه آثار، وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان على وجهه وقال بابي وجه لا يفلح، وقال مسروق بن الأجدع: من بلغ أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ومنه قول الشاعر: [الطويل]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ *** له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى *** وإن جر أسْباب الحياة له العمر
وقد قال قوم: الحد خمسون سنة وقد قال الشاعر: [الوافر]
أخو الخمسين مجتمع أشدي *** ونجدني مداومة الشؤون
وقال الآخر: [الطويل]
وإن امرأً قد سار خمسين حجة *** إلى منهل من ورده لقريب
وقال ابن عباس أيضاً وغيره: الحد في ذلك ستون وهي من الأعذار، وهذا أيضاً قول حسن متجه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين» وهو العمر الذي قال الله فيه ما يتذكر فيه من تذكر، وقال صلى الله عليه وسلم: «عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر»، وقرأ جمهور الناس {ما يتذكر فيه من تذكر}، وقرأ الأعمش {ما يذكر فيه من أذكر}، و{النذير} في قول الجمهور الأنبياء وكل نبي نذير أمته ومعاصره، ومحمد صلى الله عليه وسلم نذير العالم في غابر الزمان، وقال الطبري وقيل {النذير} الشيب وهذا قول حسن، إلا أن الحجة إنما تقوم بالنذارة الشرعية وباقي الآية بين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5